المدونة, ما أنا بقارئ, مشروعات

ما أنا بقارئ (2) – يهمني الإنسان؟

"ما أنا بقارئ" بابٌ إلى خزانة كتابات كبيرة، أو هكذا أتمنَّى، أضع فيها قراءاتي وما تثيره عندي من أفكار وملاحظات. لا أقصد التهريج بعنوان الباب، بل ألتمس فيه كل المعاني الممكنة لتلك الكلمات الثلاث؛ فسأكتب أحيانًا عن كتب ومقالات ما أنا بقارئها، أي أنَّني لن أتمكَّن أبدًا من قراءتها كاملةً، وأحيانًا عمَّا أقرؤه، وأحيانًا عن كتابات بلغاتٍ ما أنا بقارئ بها.

إليك "ما أنا بقارئ" بأي معنى أردت (أردتُ أنا أو أردتَ أنت).


قرأت مقال يوسف رخا "الكدبة، أو يا أخي ملعون أبو دي حضارة" عن أثر اللي بيحصل في غزة على قناعاته وأهدافه ككاتب وكإنسان عايش في الزمن ده.

بيقول رخا: "بس حتى الدمار والافترا اللي حاصل في غزة مفرحني لإنه محررني من الكدبة اللي كابسة على نفسي ليل نهار، الكدبة اللي طول الوقت طلعان ديني عشان أقنع نفسي بيها: إن النظام المهيمن على العالم من يوم ما اتولدت لغاية ما أموت ممكن يشوفني إنسان مكتمل الإنسانية ويعاملني زي ما بيعامل البني آدمين."

فكرة سقوط وعد المنظومة الإنسانية أو الليبرالية بإن كل إنسان، وبالتالي كل مجموعة بشرية، له مجموعة من الحقوق الأساسية تستوجب التعامل معاها باعتبارها "خط أحمر" ودعم الإنسان أو المجموعة في مواجهة ما يهدد الحقوق دي، أو على الأقل عدم تقديم دعم أو غطاء سياسي أو عسكري أو إعلامي لما يهدد الحقوق دي، فكرة مزلزلة لأي حد بنى جزء من تكوينه الأخلاقي والفكري على الإيمان بالوعد ده، واللي هكون صريح وأقول إن الاحتياج للإيمان بيه بقى بمثابة الاحتياج لإيمان ديني بعد ما كتير من الناس بقوا بيواجهوا صعوبة في تأسيس قيم إنسانية عالمية على أساس النصوص الدينية لإنها هتيجي في وقت معين (سواء قريب جدًا في التفسيرات الأصولية أو بعيد شوية في التفسيرات الحداثية) وتتعامل مع البشر باعتبارهم معسكرات مختلفة بينها صراع حتمي وضرورة للفصل بين "الأنا" و"الآخر" على أساس ديني.

وأنت -كإنسان عربي- بتشوف تعامل الحكومات والمؤسسات الإعلامية والرأسمالية الغربية مع جرائم الاحتلال بعقاب جماعي وفصل عنصري وتدمير منشآت مدنية وصحية وتجويع وغيره، إزاي تقدر تفصل القيم الليبرالية عن مصدرها وتفضل مؤمن بيها لنفسك وللي حواليك؟ إزاي تقدر ماتقعش في فخ الغضب الأعمى أو النزوع للانتقام أو العدمية التامة تجاه مستقبل إنساني عالمي حقيقي اللي بييجوا مع مظلومية تاريخية ومظلومية مستمرة في الحاضر؟ إزاي هتقول لحد على بُعد مترين في المسافة أو لحظتين في الزمن من إنه يحاربك، أنت شخصيًا: "لأ أكيد أنت مش قصدك تحاربني أنا، أنت تقصد تحارب الإرهابيين الأشرار" من غير ما تحتقر نفسك؟

أسئلة صعبة وإجابتها محتاجة جهد كبير في بناء منظومة أخلاقية واجتماعية وإنسانية مختلفة، معنديش أمل كبير في إنها تكون منظومة غير فردية، قادرة على الصمود لما تسقط المنظومة الغربية اللي بطَّلت تهتم بالحفاظ على تماسكها الظاهري أو توازن داخلي جواها يدي أمل للمواطن الأسمر أو الأصفر في إنه يلاقي حلفاء حقيقيين جواها غير الأفراد ومنظمات الهامش.

رخا بيقول، على جنب كده، وفي ما يبدو إنه جملة اعتراضية، ولو إني الحقيقة أتمنى يمشي ورا الفكرة دي شوية لإنها محورية في رأيي لإيجاد أرضية مشتركة بين البشر باختلاف أماكن ميلادهم وألوانهم قايمة على إدراك تفاهة الوضع الحالي اللي إحنا، في الغرب والشرق، عايشينه: "فهما قابلين حياة مش بس ما فيهاش أي حاجة ما هياش سلعة ولا أي كلمة ما هياش إعلان ولا أي هوية ما هياش مسخ للشيء اللي بتوصفه."

رخا بيوصف الناطقين بالإنجليزية في حياته بالوصف ده، لكني لمسته في تجربتي الشخصية في الوقت ده، وماظنش في فروقات أساسية أو واضحة بيننا وبينهم في الموضوع ده. "بيننا" هنا يمكن محتاجة تحديد أكتر شوية. أظن إني بعني بيها الطبقات المتعلمة اللي بتبص للغرب وأمريكا بالتحديد كنموذج للصح والجمال والحياة الكويسة سواء عن إدراك أو وقوع في البروباجندا أو حتى عن احتياج لوجود مكان تتوفر فيه المُثُل دي. أصل هي لو مش أمريكا هتبقى إيه يعني؟ سوريا؟ السعودية؟ ليبيا؟

في سياق يبدو بعيد تمامًا، بس دماغي لقت روابط كتير بينه وبين كلام رخا، قرأت منشور لشاب اسمه ياسين على LinkedIn بيقول فيه إنه بعد ما لاحظ إن السيرة الذاتية بتاعته مش بتوصل لمرحلة الإنترفيو وفكَّر إن السبب ممكن يكون اسمه العربي فقرر يعمل تجربة بإنه يقدِّم في 25 وظيفة باسم ياسين، وفي 25 تانيين باسم جاك لمجرد إن جاك واحد من أشهر أسماء مديري الشركات.

وفعلًا، ماجاش لياسين أي إنترفيو باسمه الحقيقي، وجاله إنترفيوز واتعين بالفعل باسم جاك. وعلى حسب كلامه، فضل سنة كاملة اسمه في شركته جاك مش ياسين.

كاشف جدًا موضوع إنك محتاج تغير اسمك -حرفيًا- عشان بس يتبصلك بجدية وتدخل في عِداد البشر اللي من حقهم يحصلوا حق بسيط زي إنهم يقدموا على وظيفة ويدخلوا إنترفيو.

Photo by Pixabay

هل أعجبك ما قرأت؟ يسعدني اشتراكك في القائمة البريدية لتصلك رسالة أسبوعية بجديد ما أكتب في "ما أنا بقارئ"، ويسعدني أكثر معرفة تعليقاتك وملاحظاتك في خانة التعليقات أسفل المقال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *